بدأ العصر العباسي في فترة متأخرة بعض الشيء عام 749م تقريبًا، لكن بالرغم من ذلك نجده من أهم العصور التي مرت على التاريخ، حيث سجل به علماء المسلمون الكثير من الإنجازات التي أثرت في العالم بأكمله، وكان من أهم نقاط قوة هذه الدولة هو إيمانها بأهمية الإنفتاح على الدول الأخرى والاستفادة مما وصلوا له، وقد ظهر ذلك في النزعة العقلية لهم، ولكي تتمكن من الوصول إلى تفاصيل أخرى تابع معنا موقع الموسوعة حيث سنعرض أهم مظاهر النزعة العقلية في الدولة العباسية.
إذا كنت تود معرفة ما هي النزعة العقلية بصورة عامة فدعنا نخبرك أنها اتجاه فكري هدفه الوصول إلى تفسير الظواهر التي تحدث في العالم وتفسير الأفعال وما ينتج عن الإنسان من رد فعل تحت أساسات عقلية، وقد توسعت وانتشرت هذه النزعة بشكل كبير خلال العصر العباسي ويرجع ذلك لعدة أسباب، أهمها كان الاهتمام بشؤون الترجمة وتوسيع فكرة الاختلاط بالشعوب المختلفة مثل اليونان والفرس والهند.
حيث قاموا بتبادل المعلومات والخبرات والفلسفة، وهو ما أثر بدوره بشكل كبير على اتساع النزعة العقلية وانتشارها خلال العصر العباسي، لذا يمكننا أن نجد مظاهر النزعة العقلية في عدة مجالات أهمها ما يلي:
اشتهر العصر العباسي بكونه من أكثر الأوقات التي كان الفقه مزدهر فيها بسبب أن العلماء كانوا يصيغوه بصياغات علمية على خطى ما فعله علماء النحو، لذا كان البعض منهم يبحث في نصوص القرآن أو نصوص السنة ليحاول الوصول إلى فتوى باسمه، كما كان منهم مجموعة تتوسع في البحث داخل تعاليم وكتب الإسلام بشكل كبير، لذا نجد أن هذا الاختلاف أظهر لنا مذاهبان هامين.
حيث ظهر من هنا مذهبي الفقه والتشريع أبي حنيفة الموجود في منطقة العراق والكوفة بالإضافة إلى مذهب مالك الموجود في المدينة والحجاز، كما ظهر أيضًا مذهب الشافعي الذي استقل تمامًا بمذهب آخر وأتى بعد ذلك ابن حنبل الذي كان صاحب المذهب الرابع ومعه كافة بغداد.
شاهد أيضًا: ما هو العصر الذهبي
خلال فترة العصر العباسي كان رواة الحديث النبوي يخلطون بين ما قيل من الرسول وما قيل عن الصحابة حسب تعاليم الدين الحنيف وما قيل عنهم فيما يخص تعاليم وتفاسير القرآن الكريم، لذا وجدوا أن الحديث يضم كافة ما يتعلق بالتفسير والتشريع والفقه، مما جعل الكلام فيه يتكاثر وتكاثرت فيه التصنيفات نتيجة لذلك، مما جعله يقسم على عدة مصنفات في أبواب الفقه.
من أشهر العلماء الذين قاموا بتصنيف الحديث تبعًا للجيل الأول هو العالم عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج الذي كان يعيش في مكة، وكان معه العالم معمر بن راشد الذي كان موجود باليمن، أما في الجيل الثاني فنجد العالم مالك بن أنس الموجود في المدينة المنورة، ومعه العالم سفيان بن عيينة الموجود في مكة المكرمة، ويعتبر أهم إنجاز لهذين الجيلين من العلماء هو كتاب الموطا الذي كتبه مالك بن أنس.
جدير بالذكر أن هذا الوقت ظهر فيه العديد من الطرق الجديدة التي يمكن من خلالها تصنيف وتلخيص الحديث النبوي بشيء من الفقه يعرف بالمسانيد، ومن أشهر العلماء الذين اتبعوا هذا المبدأ والطريقة الجديدة العالم الربيع بن حبيب الإباضي.
يمكننا أن نجد أثر كبير للنزعة العقلية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث كان لذلك دور هام في حركة النشاط العلمي والفكري التي حدثت خلال العصر العباسي، لذا نذكر لكم ما يلي:
جاءت النزعة العقلية في علم الجغرافية لحل مشكلة العبادة والترحال والحج، حيث قد قامت الدولة بتشجيع الأشخاص على السفر عن طريق نشر الأمن والأمان حول المنطقة، فعندما قام المسلمون بالسفر عبر البلاد وتوسعوا في السفر أكتسبوا علاقات تجارية، وتعرفوا على معلومات جديدة جغرافية كانت قد وصلت لهم عن طريق اليونان، حتى أن أدب الرحلات ظهر على يد أحد التجار الذي يدعى سليمان البحار الذي جاب البحار كثيرًا من الصين والهند وغيرها.
حيث قام هذا الشخص بتسجيل الكثير من التفاصيل التي عاشها خلال رحلاته عبر البلاد، فسجل عادات وتقاليد كل منطقة، وكان أيضًا من أشهر علماء المسلمين العالم اليعقوبي الذي اعتبره المسلمين أول جغرافي وصف الممالك المختلفة معتمدًا في ذلك على الزيارات الشخصية التي قام بها، وقد كتب كتاب أطلق عليه “البلدان”.
بخصوص التاريخ فقد كان الحكام والشعوب بشكل عام يهتمون بالتاريخ ليتخذوا منه موعظة للحاضر وكيفية التغلب على ما يقابلهم من مشاكل، وقد كان الأمر في البداية متأثرًا بعض الشيء بالحديث الشريف ثم تطور شيئًا فشيئًا ليستقل بذاته بعيدًا عن العلوم الأخرى، وقد كان من المناهج المتفق عليها بين مؤرخي الإسلام أمانة النقل وصدق الرواية.
المميز هنا أننا سنجد أن علماء المسلمين قد كتبوا في أنواع كثيرة من علم التاريخ بحيث سجلوا السير الذاتية أمثلة سيرة ابن هشام، كما كتبوا وسجلوا الوقائع الإسلامية مثل فتوح البلدان، بالإضافة إلى أنهم اهتموا بالأنساب وذكرها فنجدهم دونوا كتب خاصة بالأنساب مثل كتاب الفريد في الأنساب لصاحبه هشان الكلبي، كما كتبوا الحوليات وبرع فيها العديد من الكتاب مثل المسعودي والطبري.
خلال فترة العصر العباسي ازدهرت العلوم اللغوية بشكل كبير، وكان للنزعة العقلية دور بارز في ذلك، ويمكنك أن ترى بعض التفاصيل من خلال ما يلي:
بدأت أهمية الأدب والنثر تظهر خلال الخطب،حيث كان الخطباء يميلون إلى قول الكثير من أيات القرآن خلال الخطبة الواحدة، وقد وضح ذلك الجاحظ في كتاب البيان والتبيين عندما ذكر سمات الخطباء وعيوبهم، حيث لم يقتصر الأمر عند الخطبة فقط بل تجاوز فوصل إلى بعض الفنون الأدبية النثرية أيضًا، وقد ظهر عدد من العلماء الذين يختصون في هذا العلم أمثلة البازياراني وأبوصالح البخاري بالإضافة إلى ابن خالويه.
كان في هذه الفترة يتم قراءة القرآن الكريم بنغمة من الألحان، مما جعل العلماء يفكرون في التوجه نحو علم النحو للحفاظ على الكلمات الأصلية والمعاني، وكان من أهم هؤلاء العلماء العلامة أبو علي الفارسي في بلاد الشام الذي علم بن جي النحو، وقيل عنه أنه أعطى ثلث أمواله إلى النحاة الموجودين في بغداد، وقد كتب لنا كتابي الإغفال والتذكرة، ومنهم أيضًا العالم أبو الحسن الأخفش الأصغر صاحب كتاب الأنواء وشرح كتاب سيبويه.
جدير بالذكر أن البصرة في هذا الوقت كانت تسبق الكوفة فيما يخص القواعد النحوية والمصطلحات العربية، وقد قيل في هذا الوقت أن أبا الأسود الدؤلي قد قام بكتابة كتب بخصوص النحو، لكن في الحقيقة لم يفعل لكنه وضع النقط في المصحف بحيث يساعد في عملية الإعراب.
ضمن التطور الذي حث خلال العصر العباسي في كل شيء كان لابد من وجود تطور لغوي في علوم اللغة، لذا احتاج العلماء إلى استحداث ألفاظ جديدة داخل اللغة العربية، هذا الأمر الذي أثر بشكل كبير على اللغة سلبيًا حيث استخدمت العديد من المعاني في غير موضوعها، لذا عاد مجموعة من العلماء يهتموا باللغة العربية وألفاظها، وكان على رأسهم الجاحظ الذي طور من علم البيان وعلم اللغة.
ظهر اهتمام الجاحظ بعلم اللغة بشكل كبير خلال كتابه البيان والتبيين الذي قام من خلاله بتخصيص أجزاء كبيرة وأبواب للحديث عن طريقة النطق الصحيح ومحاسن النطق بشكل جيد، وأثر ذلك على المستمع الذي يسمع اللغة سواء كان غريب أو من أهل اللغة.
من ضمن أنواع العلوم اللغوية التي تطورت خلال العصر العباسي أيضًا هو الشعر، حيث عرف الشعر مجموعة من الأغراض الجديدة مثل الخمريات والغزل، بجانب الحفاظ على الأغراض القديمة مثل الفخر والنسيب والفروسية التي تستخدم لها الحماسة وغيرها، لذا استخدم الشعراء ألفاظ واستعارات ومعاني جديدة، وكان من أشهر الشعراء في العصر العباسي المتنبي والبحتري وأبي تمام، ويمكنك رؤية ذلك من خلال الإطلاع على جزء صغير من شعر المتنبي فيما يلي:
على قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ
هناك الكثير من الأسباب التي جعلت النزعة العقلية تتطور بشكل كبير خلال العصر العباسي، ويمكنك أن تتعرف على كافة هذه الأسباب من خلال ما يلي: