يعرف معظمنا أن المنطقة العربية هي مهد لكل الحضارات والثقافات الإنسانية، والتي منحها الله الكثير والكثير من الحضارات التي نشأت على أرضها، ويظهر أثر تلك الحضارات جلياً في بعض الثقافات المعاصرة لبلادنا العربية، ولكن يأتي السؤال هنا، ما هي اول حضارة بشرية، وقد كشفت الأبحاث الأثرية عن أقدم حضارة بشرية وصلت آثارها إلينا هي حضارة ما بين النهرين، ألا وهي حضارة بلاد الرافدين، وقد سميت باسم بلاد ما بين النهرين من الكلمة اليونانية مسوس التي تعني وسط، وكلمة بوتاموس والتي تعني في اليونانية النهر، والنهرين هما نهران دجلة والفرات، اللذان يجتمعان في العراق، فكانت حضارة ما بين النهرين في العراق.
تنقسم حضارة بلاد الرافدين لمرحلتين أساسيتين وهما مرحلة الهجرات الأولى لبلاد الرافدين، والمرحلة الثانية وهي مرحلة عصر حجري حديث، وسنعرض لكم بعض المعلومات عن كل مرحلة على حدة فيما يلي.
بدأ نشأة بلاد الرافدين- كما هو مذكور في العديد من المصادر- على يد مجموعة من السومريين الذي كانوا يقطنون المناطق الجبلية، والتي كان يفصلها عن أرض الرافدين البحر، وقد وصلت إلينا تلك المعلومات لأنها كانت مدونة على الألواح الطينية، ولكن اختلف كبار المؤرخين في تحديد الموطن الأصلي لأهل حضارة بلاد الرافدين الأصليين، فقد ذكر بعضهم على أنهم من أواسط آسيا، وقد ذكر آخرون أنهم من جنوب آسيا، ثم هاجر إليهم الآراميون والعموريون- وتلك قبائل بدوية هاجرة من الجزيرة العربية بسبب التصحر- فذهبوا إلى بلاد الرافدين كثيرة الخيرات والماء والصالحة للزراعة، فأسسوا الحضارات الأكدية والبابلية والكلدانية والآشورية، ولكن انتهىت حضارتهم وثقافاتهم على يد العيلاميين الذي أتوا من إيران، والعموريين.
كانت اللغة السومرية هي أول لغة على سطح الأرض- كما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات التاريخية- ولكن مع تطور الثقافات والحضارات انتشرت اللغة الأكادية وحلت محل اللغة السومرية، وكان ذلك قبل عام ألفين وأربعمائة قبل الميلاد، وتم استخدام اللغة الأكادية من قبلا إسكندر الاكبر في عام ثلاثمائة وثلاثة وعشرين وثلاثمة وستة وثلاثين قبلا ميلاد.
اهتمت الدولة البابلية بنشر العلوم والثقافة في أغلب بقاع المملكة، فقد كانت هناك مكتبات في معظم المدن والمعابد، وقد كان هناك عدداً كبيراً من المؤلفات والمخطوطات البابلية التي تم ترجمتها من أصول سومرية، وقد وصلت إلينا العديد من الأعمال الأدبية القوية المعبرة عن الثقافة البابلية وأدبها، ومن تلك الأعمال ملحمة جلجامش، والتي تمت كتابتها في اثني عشر كتاباً وتم ترجمتها عن اللغة السومرية عن طريق سين لقي ونيني، وكان كل قسم من هذا العمل الأبي يحتوي على مغامرة لمغامرات جلجامش وهو في عمله.
تميزت حضارة ما بين النهرين في العديد من العلوم المختلفة مثل الفلك والطب والرياضيات، وكانت سابقة لعصرها في هذه الفترة، الأمر الذي ساعدها على توسعة مجالات العلوم والفنون، وسنعرض لكم بعض المعلومات عن تلك العلوم ومدى التطور الذي وصل إليه أهل العلم في بلاد ما بين النهرين فيما يلي.
اهتم علماء الفلك البابليين بدراسة النجوم والسماء، واستطاع معظمهم توقع الخسوف والانقلاب الشمسي، وقد وضع علماء الفلك في بلاد ما بين النهرين جدول زمني مدته اثني عشر شهراً، وكان يتم حسابه على أساس دورات القمر، وقام البابليون بتغسيم السنة إلى موسمين، موسم الصيف وموسم الشتاء.
دعم الفلكي البابلي سلوقس السلوقي فكرة إن الشمس هي الداعمة الرئيسية لحركة الكواكب، وكان سلوقس مشهور بسبب كتابات بلوتارخ، وقد أيد نظرية مركيزة الشمس، بحيث تدور الأرض حول محورها، والتي بدورها تدور حول الشمس.
كان علم الفلك البابلي الأساس الذي بنيت عليه مبادئ ونظريات علم الفلك اليوناني والهلنستي، وعلم الفلك الهندي الكلاسيكي، كما أفاد أيضاً في علم الفلك الإسلامي في العصور الوسطى، وفي علم الفلك في آسيا الوسطى وأوروبا.
اعتمد أهل بلاد ما بين النهرين على نظام عد عشري ستيني، وكان هذا هو المصدر الأساسي للساعة الحالية، فضلاً عن الدائرة ذات الثلاثمائة وستين درجة، كما قاموا بتقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام.
عرف البابليون القواعد العامة لقياس المساحات، فقد قاسوا محيط دائرة كثلاث أضعاف القطر، والمساحة كواحد من اثني عشر مربع المحيط، الأمر الذي قد يعد صحيحاً.
تعود أقدم النصوص البابلية في الطب إلى النصف الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد، وكانت معظم الكتابات البابلية طبية واسعة النطاق، وكانت تلك الكتابات بمثابة دليل تشخيصي، ويترأس تلك الكتابات الدليل التشخيصي الذي كتبه الطبيب ايساجيل كين ايلي من برسيبا.
تعاون البابليون مع طب مصر القديمة المعاصر، فقد قدم البابليون مفاهيم التشخيص وتوقعات طبية والفحص البدني والوصفة الطبية، كما قدم الدليل التسخيصر بعض الطرق لعلاج المسببات المرضية، وكان ذلك عن طريق استخدام المنهج التجريبي، وهو القائم على المنطق.