إن الوطن هو هبة عظيمة من الله عز وجل يقع الإنسان في حبه رغمًا عنه ويعشقه ويفخر به، فهو بمثابة كتاب عمر الفرد الذي يحمل ذكريات طفولته وأسرته والأصدقاء والدراسة، والوطن هو الأهل الذي يدعمون ويساندون هذا الفرد، فالوطن هو البداية والنهاية، والرحلة بينهما تكمن منذ الولادة حتى يصبح شابًا متعلمًا ثم رجلًا عاملًا ثم شيخ طاعن حتى يصل إلى نهاية الرحلة في يوارى في ثرى تراب الوطن، ولهذا الوطن يكن الإنسان كل الحب والاحترام، وإن علاقة الحب والاحترام هذه فسرها الكثيرون وأطلقوا عليها اسم “الوطنية”، التي تعتبر حب غير مشروط وانتماء دون جهد أو تكلف لهذا الوطن، تنبع من مشاعر صادقة تجعل هذا الفرد ودون أن يكلفه أحد يتصدر لحماية هذا الوطن والذود عنه، والدفاع باللسان وباليد عند اللزوم.
الوطن هو أغلى شيء على قلب الفرد، فهو بمثابة الأب والأم كونه مسقط الرأس وفيه نقضي الطفولة، ومهما غاب الفرد عن وطنه وجاب أرجاء العالم لا يمكن أن يعدل حبه لوطن مهما كان مقدار حبه لوطنه الأغلى على الدوام، فالوطن هو السند الحقيقي الذي لا يمكن أن يخون صاحبه، حفنة من التراب تتلخص فيها حياة المرء وتاريخه وتاريخ أجداده.
لهذا يكون الفرد في الوطن كما تكون النبته في بستان، تضرب جذورها في أعماق الأرض كما تضرب جذور الوطن في أعماق النفس والروح، ويمدهم بالحب الذي يبني ويبني مستقبله، لذلك وجب على كل فرد أن يخلص في عمله لوطنه كما يخلص في حبه، فلا يوفر جهدًا ولا يضيع وقتًا إلا وقد ساهم في رفعة وطنه وتقدمه على أي مستوى كان، كلٌ في مجال عمله، فإن الأوطان لا تبنى بالشعارات والكلمات والأغاني فقط بل إنها تحتاج إلى فكر سليم وتوجه وقصد والكثير من العمل لتحقيق ذلك البناء الكبير، وليس من فرد واحد إنما من جميع أبناء هذا الوطن المخلصين.
وهكذا فإن الحب الكبير للوطن يعمق الشعور بالانتماء ويدعم العمل ويضاعفه ويتسبب في متابعة النمو والازدهار، فسبحان الذي جعلنا نعشق أوطاننا ونحيا ونموت في سبيلها ونربي أولادنا على الاستمرار في هذا من بعدنا.
حب الوطن يتكون من خليط من المشاعر الصادقة التي يكونها التعلق بالأرض وأشجارها وصخورها وتضاريسها، بالمجتمع وعاداته، باللغة واللهجة المستخدمة، هذه الأشياء وغيرها الكثير يشكل حالة فريدة لا يمكن أن يجدها المرء في أي مكان آخر فكل وطن يختلف عن الآخر، لذلك نرتبط في هذه الأشياء ونطلق عليها جميعها “الوطن”.
فكيف تعبر عن حبك لوطنك وهو عبارة عن تراكمات من الذكريات الجميلة منها والأقل جمالًا على السواء، فجميع ذكرياتنا عبارة عن شبكة كبيرة ممتدة عبر الزمن تعمل على توصيل مشاعر الحب بين المرء وأرضه، فلا يرضى بظلمها أو الهجوم عليها أو سلبها أو الانتقاص منها، حيث يعتقد أنها تمثله وتعبر عنه، يعتقد أنه نبت منها هو ووالداه وأجداده، وهو هذا ما يجعل للوطن مكانة في القلب لا يمكن أن يدركها من لا ينتمي لنفس الوطن، ويجعل المرء يبذل الغالي والنفيس في سبيل رفعة وطنه واعلاء مكانتها بين الأمم.
وهذا ما يجعل الكلمات عاجزة أمام التعبير عن هذا الوطن الذي نكن له أكبر مشاعر الحب والتقدير والانتماء، فلا يكفينا في حبه شعرًا ولا مقالًا ولا تعبيرًا بأي شكل كان، نبدأ بالحديث عن حب الوطن ولا ننتهي حتى تنتهي أعمارنا، وربما لا تكفينا أيضًا.
حب الوطن فرض علينا وواجب، جعل الله الوطن بمثابة العرض والشرف الذي يجب الدفاع عنه والحفاظ عليه من كل سوء، بل كما يجب بحسب ديننا الإسلامي الحنيف الحرص على خدمة المجتمع والمشاركة في نهضته ورفعته الوطن ودون هذه الأشياء يعتبر المرء مقصرًا في حق دينه ووطنه.
لذلك فإننا على الدوام نرى العظماء من الناس هم الذين عرفوا قدر أوطانهم و خدموا وضحوا في سبيلها وقدموا لها الأرواح والمهج، فإن الوطن يستحق منا كل حب وتقدير وامتنان لنعمة الله عليه، ويكون شكر الله على الوطن بالحفاظ عليه من كل سوء وأداء الواجب تجاهه على أكمل وجه، فترى الفلاح يجهد في الزراعة والصانع يبدع في صنعته والمعلم يربي جيلًا بعد جيل، فيكون بذلك كل فرد من أفراد المجتمع مشاركًا في نهضة الوطن وتقدمه.
هكذا يكون حب الوطن، بالبناء وليس بالهدم، بالعلم وليس بالجهل، بالتقدم لا بالتراجع، وجود رؤية واضحة لجميع أبناء الوطن، تتمثل في السعي إلى بلوغ القمم، والرغبة في جعل الوطن في مقدمة الأمم.
الوطن نعمة كبيرة نحترمها ونعلم قدرها ونشكر الله عليها بالأفعال والأقوال، لذلك نقدم تاليًا أجمل الأبيات الشعرية التي قيلت في حب الوطن:
وطني يجاذبني الهوى في مهجتي
هو جنتي هو مرتعي هو مسرحي
آوي إليه وملء عيني غفوة
هو من أحلق فوق جوانحي
ما لا رأت عين ولا سمعت به
فيه الحواري والملائك تستحي
أنا به من كل دالية دنت
عسل يداوي كل جرح مقرح
سلمت يا موطن الأمجاد والكرم
يا موطني يا رفيع القدر والقيم
سلمت حام لهذا الدين يا وطنًا
سما به المجد حتى حل في القمم
لم تعرف الأرض أغلى منك يا وطنًا
مشى عليه النبي الحق بالقدم
يا مهبط الوحي يا تاريخ أمتنا
يامشعل النور للأمصار في الظلم
“سأظلّ أناضل لاسترجاع الوطن؛ لأنّه حقّي وماضيّ ومستقبلي الوحيد لأنّ لي فيه شجرة وغيمة وظلّ وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب.. وجذور تستعصي على القلع”.
غسان كنفاني
“أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”.
غسان كنفاني
“نموت كي يحيا الوطن، يحيا لمن؟! من بعدِنَا يبقى التراب والعفن، نحن الوطن”.
أحمد مطر
“عندما يستباح الوطن يستباح كل شيء، وتصبح الدنيا سوقًا كبيرة للنخاسة فيه الإنسان أرخص من تراب الأرض”.
سامية أحمد
“من أين لي أن أقترب من الوطن وهو يملك وجوهًا عديدة.. كلما اقتربتُ من أحدها أشاح بنظره بعيدًا”.
سعود السنوسي
“في نهاية كل يوم، ليس المهم من أين أتيت، قد يكون وطني في مكان ما أنا ذاهبة إليه ولم أكن فيه أبدًا”.
وراسان شير
“الوطن ليس جغرافيا، إنّه قيمة الحبّ والكرامة والفداء والإباء والعدل، الوطن إيمان المخلص وتضحية العاشق، الوطن ثبات على المبدأ في ضجّة البائعين، وتشبّث بالحريّة في سوق النخّاسين، الوطن أنت وأنا وأولئك الذين يجمعهم الضمير النقيّ، والغاية الشّريفة”.
أيمن العتوم
“إن الوطن هو مجموعة عواطف من يسكنونه، ومجموعة أفكارهم، ومجموعة خياراتهم ومجموعة حرياتهم، وحين يقفُ الوطنُ ضدّ مشاعر مواطنيه، وضد عواطفهم وأفكارهم، وضد شؤونهم الصغيرة؛ فإنّه يتحوّل حينئذٍ إلى قاووش كبير للسجناء”.
نزار قباني
“الوطن هو المكان الوحيد في هذا العالم الذي ترتاح به القلوب وتشعر بالأمان، المكان الذي يشعرنا بالثقة بالنفس، وهو المكان الذي نخلع به قناع الخوف ونرتدي قناع الشجاعة للدفاع عنه مهما تطلب الأمر، وهو المكان الذي نستطيع التعبير عن آرائنا بحرية دون الشعور بالتردد أو الخوف”.
فريدريك روبرتسون