كلمة عن الوطن عرف الجرجاني الوطن في الاصطلاح بقوله : الوطن الأصلي هو مولد الرجل والبلد الذي هو فيه وعند الرجوع إلى كتب المعاجم والموسوعات (وبخاصة السياسية منها) ففي المعجم الفلسفي : الوطن بالمعنى العام منزل الإقامة والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الإنسان أو نشأ فيه وفي معجم المصطلحات السياسية الدولية : الوطن هو البلد الذي تسكنه أمة يشعر المرء بارتباطه بها وانتمائه إليها ومن ثم يمكن أن نصل إلى تعريف للوطن وهو أن الوطن المراد هنا : الوطن الخاص أي بلد الشخص ولادة ونشأة أو نشأة فقط ،ونشأه فقط تعارف عليه الناس في العصر الحاضر بالحصول على الجنسية أو رابطة الجنسية وهو لبنة متماسكة في بناء الوطن العام الذي يحد بالعقيدة الإسلامية ولا يحد بالحدود الجغرافية إذن فالوطن هو من الثوابت الأساسية في حياة الإنسان فمن غيره لا هوية أو تاريخ أو عادات أو انتماء في حياة الإنسان
الوطن هو كلمة تشمل العديد من المعاني إذ أنها تدل على المكان أو المنطقة التي يقيم فيها الإنسان ويولد فيها وينتمي إليها إذن فالوطن هو المكان الذي ارتبط به الإنسان منذ ولادته حيث أن الوطن هو أقرب ما يكون من الأشياء إلى النفس وهو أقرب الأشياء والمعاني إلى فؤاده ففيه حياته ونشأته وأصدقائه وأهله وأحبائه وذكرياته في مختلف مراحل عمره إذن فمفهوم الوطن هو مفهوم يشمل ويجمع كل هذه المعاني الجميلة مما يجعله يعمل على خلق شعور الانتماء لدى الإنسان ويجعله يتصدى لكل النوازع أو الفتن أو التحديات أو الأخطار التي من الممكن أن تنال من وطنه أو تخل بأمن ذلك الوطن وسلامته حيث بناء على حبه وانتمائه لوطنه يتحرك لدرء الخطر الذي يقصد وطنه بل يجعله يصل به الأمر إلى التضحية بحياته وبكل ما يملك من أجل ذلك الوطن فالوطن ليس مكانا نعيش عليه منذ ولادتنا أو ندفن بترابه عندما يأتي اجل الانسان فالوطن يعيش فينا ولا نعيش فيه ويفسر هذا المعنى العميق د. جمال حمدان فى كتابه الخالد «شخصية مصر» ( دراسة فى عبقرية الزمان والمكان )هو تعانق بين الجغرافيا والتاريخ حيث يصبح التاريخ ظل الإنسان على الزمان وتصبح الجغرافيا ظل الإنسان على المكان وهكذا نجد أن الوطن هو الحضارة وإبداع الانسان عبر القرون ولولا حضارة الفراعنة ما كنا قد عرفنا قيمة الهرم وأسراره وأرى ان الوطن مشاعر لا يقدرها إلا من تغرب وهذا يفسر لنا لماذا يبكى البعض عندما يعود الى ارض وطنه ويقبلها ويمرغ نفسه ورأسه بعطر ثراه ومن يعرف معنى الوطن تتولد لديه طاقة إيجابية تدفعه للتفاؤل والعمل والانتاج رغم المشكلات والأزمات والوطن فهو ذلك الحنين الغريزي والفطري الموجود داخله دون إرادة أو اختيار منه وهو حبه وتعلقه ببقعة معينة دون غيرها حتى وأن عاش في مكان أو بقعة أخرى غير موطنه الأم حيث أنه لا يستطيع أن يوقف شعور الحب داخله لموطنه ومسقط رأسه الأساسي طوال حياته ،والبشر يألفون أرضهم على ما بها ولو كانت فقرا مستوحشا وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه ويحن اليه إذا غاب عنه ويدافع عنه إذا هوجم
للوطن أهمية كبيرة في حياة الإنسان فهو رمز هويته وتاريخه وفخره وكرامته فالوطن هو ذلك المكان الذي يوجد فيه حقوقه مثل حقه في الانتخاب وحق في الامتلاك وحقه في العيش الكريم وحقه في ممارسة شعائره الدينية وحقه في عاداته وموروثاته من أجداده بل وحقه في الاستقرار والأمن من خلال وجود حكومة أو سلطات تكون مهتمة به وبتوفير كل ما يحتاجه للحياة من غذاء وأمن وعلاج وغيرها من الاحتياجات الإنسانية المختلفة
حب الوطن هو أفضل مظاهر الانتماء لأنه هو الذي يكشف عن وجوده فهذا الحب لا يتولد من فراغ ولكنه يحي مجموعة من الاعتبارات التي يحيها الإنسان ويعيش بها ويتشكل كيانه في الحياة من خلالها فهي تشمل بالنسبة له النعمة في احلي صورها ومن الطبيعي ان يميل الشخص في حبه وولائه الى الجهة التي يشعر فيها الخير الأكبر والعطاء الأوفر ولو كانت مشاعر الناس وعقولهم واتجاهاتهم تسير في ظلال هذا النسق الفطري والاتجاه الطبيعي فما وجدنا صوتا واحدا يتجه إلى غير الولاء لله سبحانه وتعالى فهو صاحب الفضل والنعمة الكبرى ( وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) فالولاء والحب اولا لله سبحانه وتعالى ثم بعد ذلك تأتي اعتبارات أخرى تقتضي محبة الشخص لها بما يوافق الولاء الأول وينسجم معه ولأجل المحافظة على هذا الانسجام لابد أن تكون تلك الاعتبارات على هيئة دوائر كل دائرة داخل دائرة اكبر منها ومن بين هذه الدوائر دائرة حب الوطن وهي دائرة هامة جدا، فيتنازع الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات عدة انتماءات منها ما هو خاص بدائرة ضيقة كالانتماء الأسري ومنها ما هو عام كالانتماء لشعب أو أمة وتختلف دوافع هذا الانتماء فهناك الانتماء إلى الأمة الاسلامية وهناك الانتماء الأسري وهناك الانتماء إلى الوطن فلا مانع حينئذ من تعدد الانتماء كالانتماء للاسرة والانتماء للوطن والانتماء إلى الأمة الإسلامية وتفاوتت في اهميتها وأولوية بعضها على بعض لكن الذي يهمنا هنا هو إمكانية تعدد الانتماء والحب والولاء في حاله اختلاف الدافع ،كما أن الإسلام لا يغير انتماء الناس الى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم لأن هذا أمر سابق عليهم وورثوه من غيرهم لا خيار لهم فيه ولا سبيل إلى تغييره فالذي يولد في الأرض السعودية سعودي والذي يولد في الأرض المصرية مصري والذي يولد في الأرض الباكستانية باكستاني بحكم مولده وهذا أمر بديهي ولكن الإسلام ينكر أن تكون صله التجمع شيئا غير الإسلام لا الدم ولا الأرض ولا اللغة ولا المصالح المشتركة وليس معنى ذلك أن الإسلام يحرم تلك الروابط كلها كلا ولكن يجيزها حينما تكون تحت رابطه عقيدة الإسلامية وداخلها فالولاء الأول لله سبحانه وتعالى ثم نجد بعد ذلك مستوجبات أخرى للانتماء منها :
والانتماء إلى الأسرة انتماء مشروع بل يحرم تجاهله والله سبحانه وتعالى يقول ( ادعوهم لأبائهم ) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام ) ويؤكد على الواصل الأسري بقوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله ) ويقول تعالى : (فهل عسيتهم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) فالولاء للأسرة ومحبتها والانتماء إليها أمر مطلوب شرعا بل أن مما يتميز به الإسلام محافظته على الأسرة وصيانته لها والتأكيد على الروابط الأسرية في وقت ضمر فيه هذا الجانب في أخلاقيات كثير من الأمم فهذا انتماء داخل انتماء وحب داخل حب أكبر منة وكما أن الترابط الأسري يقوي المجتمع فكذلك الترابط الوطني يقوي الأمة الإسلامية
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ويوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار فيقول ( من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليحسن إلى جاره ) وكلما قرب الجار صار له أولوية في الحق وهذا أمر مهم في موضوعنا فقد سألت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : أن لي جارين فإلى أيهما أهدي فقال صلى الله علية وسلم : ( إلى أقربهما منك بابا ) فهذه رابطة مكانية استمدت صلتها وعلاقتها من سكنى الأرض وكلما قرب الشخص قربا مكانيا ازداد حقه شرعا فأصحاب القرية الواحدة بينهم من التواصل الشرعي ما لا يطلب من ساكن القرية تجاه ساكن قرية أخرى وان كانوا جميعا إخوانا في الإسلام ويمثل هذا التواصل المكاني الشرعي ويدعمه أن الفقهاء قالوا : (لا تنقل الزكاة من بلد ما دام في البلد فقراء محتاجون لها )
ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس فهو مسقط الرأس ومستقر الحياة ومكان العبادة ومحل المال والعرض ومكان الشرف على أرضه يحيا ويعبد ربه ومن خيراته يعيش ومن مائه يرتوي وكرامته من كرامته وعزته من عزته به يعرف وعنه يدافع والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع ومحبته وولائه دائرة أوسع من دائرة محبه الأسرة والحي الواحد ولكنها أصغر من دائرة الانتماء والمحبة والولاء للإسلام
فكما لا تتعارض محبه الأسرة أو محبة الجيران وأهل القرية مع محبة هذا الدين والانتماء إليه فكذلك محبة الوطن لا يمكن ان تضيق بها الدائرة الكبرى التي يجتمع عليها الجميع المسلمين وتجدر الإشارة إلى هذه الانتماءات من التداخل بحيث لا يمكن فصل بعضهما عن بعض أو قصر انتماء الشخص الى واحدة منها دون الأخرى فالإنسان منتم إلى أسرته ودينه وتعدد الانتماءات الحب والولاء وعلى هذا النحو انسجامها مع بعضها وعدم تعارضها أمر مشاهد محسوس فالمسلم يحب أسرته ويحب قريته أو بلده ويحب وطنه ويحب دينه وأن كان دينه مقدما علي الجميع لكنه لا يلغيها من الوجود
الإسلام دين الفطرة السليمة والله سبحانه وتعالى يقول (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه :
1-مثل خروج إبراهيم ولوط عليها السلام قال سبحانه وتعالى (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ )
2-أو مثل خروج موسى عليه السلام قال تعالى : (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين )
3-أو مثل خروج يعقوب عليه السلام وأولاده من فلسطين إلى مصر للانضمام إلى يوسف عليه السلام قال تعالى (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين )
ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس صعبا عليها فقد كان فضائل المهاجرين من الصحابة إنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن مما يدل على إن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى : (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإن الأصل في الإنسان أن يحب وطنه ويتشبث بالعيش فيه ولا يفارقه رغبة منه ومع ذلك فإن خرج هذا انقطاع الحنين والحب للوطن والتعلق بالعودة إليه كما كان بلال رضي الله عنه يتمنى الرجوع إلى وطنه مكة ويقول الأصمعي قالت الهند : (ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدا والطير إلي وكره وأن كان موضعه مجدبا والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعا ) وقد يغلب الحنين إلى الوطن بعض الإفراد فيضطره مثلا إلى ترك الزوج وإيثار العودة إلى وطنه كما يروى عن ما حصل من الفتاة الإعرابية ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية التي تزوجها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما وأسكنها قصرا ولكن هذا القصر لم ينسها الحنين إلى خيمتها ومضارب قومها وأهلها وعشيرتها وصارت تنشد الشعر تحن به إلى وطنها تقول : (لبيت تخرق الأرواح فيه أحب الى من قصر منيف) ،إلى أن قالت: (ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلى من لبس الشفوف) فطلقها معاوية رضي الله تعالى عنه وأعادها إلى وطنها ،فعندما يعود الإنسان إلى طبيعته التي طبع الله الناس عليها فيسجد أن لديه ولاء وانتماء وحبا للأهل والأسرة والعشيرة وانتماء إلى الوطن الذي نشأ فيه ويحمل جنسيته وهيئت له فيه الرعاية والخدمات ويقيم عليه شعائر دينه وانتماءه إلى الوطن الإسلامي الذي لا يحد إلا بالعقيدة وقد اقترن حب الأرض في القران الكريم بحب النفس فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) واقترن في موضع أخر في القران الكريم : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وهذا يدل على تأثير الأرض وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار ولكن لهذا الحب حدودا يجب ألا يتجاوزها لأن فوق هذا الحب حب آخر أولى منه وأهم وهو حب العقيدة والدين فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين وجب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين وقد يهاجر المسلم من أرضه فرارا بدينه حين لا يستطيع إظهاره والمحافظة عليه
إذا كان حب الوطن عاطفة تجيش في النفوس شأنها في ذلك شأن سائر العواطف الأخرى, فإن الشرع الإسلامي جاء ضابطا للعواطف ليحدد مسارها ويحسن توجيهها لتعمل في ميدانها السليم دون تقصير أو زيادة وإذا كنا لا نوافق الذين يغلون في حب الوطن ويرفعونه إلى منزلة فوق منزلته الشرعية فيسمو عندهم على الولاء لله ولرسوله إذا كان عندهم هذا الولاء فإننا في الوقت ذاته لا نسير مع من لا يرون مكانا لحب الوطن ويرون الحديث عن هذا الموضوع متصادما للنص الشرعي وتأثرا بالمذاهب الوافدة ودعوة ضيقة يرفضها الإسلام وحينما سلك البحث هذا المسلك الوسط فإن النصوص هي التي أدت إلى هذه النتيجة وأوصلت إلى هذا المعنى وإليك بعض من هذه النصوص من القران الكريم والسنة النبوية
1-يقول الله سبحانه وتعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) فالأباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والمساكن وهذا هو الوطن منهي أن تكون أحب إلى المسلم من الله ورسوله وهذه يعني وجود الحب ولكن الممنوع تقديمه على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقول الشيخ محمد الطاهر عاشور : ( وقد أفاد هذا المعنى التعبير بـ (أحب ) لأن التفصيل في المحبة يتقصى إرضاء الأقوى من المحبوبين ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسببا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله سبحانه وتعالى ففيه إيقاظ إلى ما يقول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من ابلغ التعبير )
2- يقول الله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) وقال تعلى : (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) فقد حكي الله سبحانه وتعالى عن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم هذا الدعاء بالأمن والرزق ويتضح من هذا الدعاء ما يفيض به القلب إبراهيم عليه السلام من حب المستقر عبادته وموطن أهله والدعاء علامة من علامات الحب وتعبير عنه
3-يقول الله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ) فقد اقترن حب الديار مع محبة النفس وأن كلا منهما أمر متأصل في النفوس عزيز عليها وورد في نص آخر قول الله سبحانه وتعالى (يَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والتي اقترن حب الوطن مع الدين فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه ولم يخرجه من وطنه والجمع بيتهما دليل على تقارب مكانه كل منهما في الإسلام وفي النفوس
4-يقول الله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال ابن العباس رضي الله تعالى عنهما إلى مكة رواه الإمام البخاري قال القرطبي رحمه الله تعالى : ( قال مقاتل : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريف مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة وعرف الطريق الى مكة فاشتاق اليها فقال جبريل عليه السلام ان الله يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) أي إلى مكة ظاهرا عليها
5-وذكر أبن الكثير عن مقاتل عن الضحاك قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله عليه : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) اي الى مكه وقال النسفي رحمه الله تعالى : هذه الآية نزلت بالجحفة بين مكة والمدينة حين اشتاق إلى مولده ومولد أبائه
1-عن انس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته أي اسر عبها واذا كانت دابه حركها من حبها ) أخرجه البخاري
2-عن انس ابن مالك رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أقدم من خيبر حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال : (هذا جبل يحبنا ونحبه ) فعندما عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة والفها وأصبحت موطنه نما في قلبه صلى الله عليه وسلم حبها وحب جبل أحد فيها من حبه صلى الله عليه وسلم لها
3-عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة ( ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) فهو صلى الله عليه وسلم في مكة يحبها ويكره الخروج منها والرسول الكريم صلي الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة واستوطنها وألفها ثم لما فتح مكة وخاف الأنصار إن يقيم فيها قال لهم : ( هاجرت الي الله واليكم ،المحيا محياكم والممات مماتكم ) بل كان يدعو الله إن يرزقه حبها كما في صحيح البخاري رحمه الله تعالى : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ) وقال السمهودي : أن معنى كلمة ( أو اشد ) أي بل أشد فهو صلى الله عليه وسلم يدعو بأن يرزقه الله حب المدينة أشد من حب لمكة لاستشعاره بأنها أصبحت بلده ووطنه التي يحن إليها ويسر عند معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها ،فالذي تغير في الأمر انه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة يصرح بحبها وعندما سكن المدينة صرح بحبها أيضا ودعا إن يحبها أكثر من مكة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في محبة المدينة مالم يرد مثله في مكة وقد تكرر دعاؤه صلى الله عليه وسلم بتحبيب المدينة إليه ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها كما في الصحيحين : ( اللهم اجعل المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ) وفي مسلم ( اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم أن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة , وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة ومثله معه ) ومن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة ودعاء محمد صلى الله عليه وسلم للمدينة يظهر (والله أعلم ) أن سبب الدعاء ليس أفضلية البقعة فحسب وإنما لكون كل منهما دعا لموطنه وموطن أهله ومستقر عبادته كما في دعائه صلى الله عليه وسلم الذي أورده السمهودي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على المدينة قال : ( اللهم أجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا ) فنلاحظ أن النبي صبى الله عليه وسلم تأثر بالبيئة التي عاش فيها فقد كان يحب مكة ويحن إليها و لما عاش في المدينة وألفها أصبح يدعو الله أن يرزقه حبا لها يفوق حبه لمكة وصار بعد ذلك يصرح بحبها ويحن إليها ويفرح إذا أقبل عليها ومن هذا يظهر ولله أعلم أن الحب هنا متصل بالنشأة في مكة ثم في المدينة وليس لما لهذين البلدين من فضيلة خاصة ويقول العيني رحمه الله تعالى : ( ابتلى الله سبحانه وتعالى نبيه بفراق الوطن ) وعلى هذا فالمتبادر أن حبه صلى الله عليه وسلم مرتبط ببلده وان كان لمكة ميزة شرعيه فهذا أمر أخر استدعى حبا على حب وتعلقا على تعلق أما المدينة فمزيتها وفضيلتها جاءت تابعا لكونها بلد الرسول صلى الله عليه وسلم فحب الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة سابق على فضيلتها سبقا زمنيا إذ قبل مجيئه إليها وسكنه فيها ومحبته لها لم يمكن لها ميزة أو فضيلة وتبعا لذلك فمحبة الوطن والدعاء له أمر مشروع
4-عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لما أقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعك أبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبح في اهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما ما مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقال : اللهم العن شبيبة بن ربيعة , وعتبة بن ربيعة , و أمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ) فبلال رضي الله تعالى عنه ( يتمنى الرجوع إلى وطنه ) وتمني الرجوع إلى الوطن يظهرعن حبه له وإذا أخذته الحمى ظهر ما في مشاعره وأحاسيسه تجاه وطنه بهذين البيتين يتمنى فيهما يوما أو ليلة يقضيها في الوطن ثم يعب على ذلك بلعن الذين كانوا السبب في إخراجه من الوطن وفي نهاية الحديث إقرار من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الحب فلم ينكر على بلال بل دعا أن يحبب إليهم المدينة كحبهم لمكة أو أشد حبا من مكة ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بإيجاد هذا الحب دليل على مشروعيته الرغبة فيه والحرص عليه ،ويقول ابن حجر رحمه الله تعالى : ( وقوله : ( كما أخرجونا ) أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا )
5-عن ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى قال : قدم أصيل الغفاري رضي الله عنه تعالى قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت له : ( يا أصيل كيف عهدت مكة . قال : عهدتها قد أخصب جنابها وابيضت بطحاؤها . قالت له : يا أصيل كيف عهدت مكة ؟ قال : والله عهدتها قد أخصب جنابها وابيضت بطحاؤها , وأغدق إذخرها واسلت ثمامها وأمش سلمها فقالت : يا اصيل لا تحزنا ) ،وفي رواية أشار إليها ابن حجر في الاصابة قال : ورواه أبو موسى في الذيل من وجه أخر بسنده قال : ( قدم أصيل الهذلي فذكره بنحوه باختصار وفيه : فقال النبي صلى لله عليه وسلم : ( ويهأ يا اصيل دع القلوب تقر ) ،فالحديث عن الوطن اثار المشاعر وحركت المحبة والقلوب له المملوءة حنينا وشوقا اليه وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قدوتنا فلا عجب حينئذ من متأس متقد به متبع لخطاه في محبه الوطن والشوق اليه والتزام في ذلك في سلوكه وحياته
6-قال الازرقي في أخبار مكة : حدثني جدي قال : حدثنا داود بن عبد الرحمن قال : سمحت طلحة بن عمر يقول : قال ابن ام كلثوم رضي الله تعالى عنه وهو أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف
حبذا مكة واد بها أرضي وعوادي
بها ترسخ أوتادي بها أمشي بلا هادي
قال ابو داود : ( ولا أدري يطوف بالبيت أو بين الصفا والمروة )
7-روي ( حب الوطن من الإيمان ) وهذا الحديث موضوع حيث قال ذلك الصغناني وقال السمهودي : ( قال ابن حجر : لك أقف عليه ) وقال السخاوي في المقاصد الحسنة : ( لم أقف عليه , ومعناه صحيح ) ونقل هذا القول أيضا تلميذه عبد الرحمن اليباني الشافعي في تمييز الطيب من الخبيث ولم يعلق عليه وقال محمد الأمير الكبير المالكي : ( لم يعرف ) وقال الهندي : ( لم أقف عليه ومعناه صحيح (الغاني ) ) وقال ملا علي القاري : ( قال الزركشي : لم أقف عليه وقال السيد معين الدين الصفوي : ليس بثابت وقيل : انه من كلام السلف , وقال السخاوي : لم أقف عليه , ومعناه صحيح وقال المنوفي : ما ادعاه من صحة معناه عجيب , إذا لا ملازمة بين حب الوطن وحب الإيمان ويرده قوله تعالى ( ولو أنا كتبنا عليهم ) فإنه دل على حبهم وطنهم مع عدم تلبسهم بالإيمان إذا ضمير عليهم يعود للمنافقين وتعقبه بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان ولا يخفى أن معنى الحديث حب الوطن من علامة الإيمان وهي لا تكون إلا إذا كان حب الوطن مختصا بالمؤمن فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصح أن يكون علامة قبوله ، ومعناه صحيح نظرا إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 🙁 ومالنا الا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا ) فصحت معارضته بقوله تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من ديركم )،ثم تبين في معنى الحديث أن صح مبناه أن يحمل على أن المراد بالوطن الجنة فإنها المسكن الأول لأبينا أدم على خلاف فيه وانه خلق فيه أو دخل بعدنا تكمل وأتم أو المراد به مكة فإنها أم القرى وقبله العالم أو المراد به الوطن المتعارف لكن بشرط أن يكون سبب حبه صلة أرحامه وإحسانه إلى أهل بلده من فقرائه وأيتامه ثم التحقيق انه لا يلزم من كون الشيء علامة له اقتصاصه به مطلقا بل يكفي غالبا ألا ترى إلى حديث : ( حسن العهد من الإيمان ) و ( حب العرب من الإيمان ) مع إنهما يوجدان في أهل الكفر والله المستعان ) وقال الألباني : (موضوع كما قال الصغاني وغيره ومعناه غير مستقيم إذ أن حب الوطن كحب النفس والمال ونحوه كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه ولا هو من لوازم الإيمان ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون في هذا الحب لا فرق بين مؤمنهم وكافرهم )
وهذا الوطن محل عبادتنا لله سبحانه وتعالي فيه مساجدنا وأهلنا وولاتنا وعلماؤنا وأموالنا كنا فيه صغارا لا حول لنا ولا قوه نشعر وقتها إن لنا حقوقا كبيرة على المجتمع حيث تعلمنا أمور ديننا ودنيانا فتيسر لنا عبادة ربنا امنين وأصبحنا قادرين على الحياة المستقرة هانئين والواجب علينا كما أخذنا من الوطن أن نعطيه وما أخذناه من الطفولة وما تلاها هو دين يقضي يوم الرجولة ويخطئ من يتعامل مع وطنه أخد بلا عطاء ودينا بلا وفاء ويخطئ أكثر من ينظر إلى الوطن نظرة العداء أو بنظرة المتأهب والمتوئب على خيراته عند كل غفلة من رقيب وأن ما نقدمه اليوم للوطن لا يعدو في الواقع ان يكون قضاء لدين ووفاء لسابق فضل مع ما يحمله هذا القضاء وذاك الوفاء من عود بالخير على كل فرد في المجتمع ومنه المواطن نفسه والذي يمثل الوطن هم ولاة الأمر فيه فهم الذين يعبرون عن الوطن ويسعون في خدمته ويضعون لذلك البرامج والخطط ومساندة ولاة الأمر في عملهم والوقوف معهم في سياستهم والتأكيد على أنهم محل ثقة كل مواطن ومحل تقديره واحترامه ودعائه وإذا كان ولاة الأمر يعملون وخلفهم شعب متكاتف متآزر متناصر مناصر لهم وساعدهم على ذلك ومكنهم من القيام برسالتهم ووظيفتهم في خدمة الوطن والنهوض به