تُعرف الخطَابة لغويًا بـ فن الإقناع أو الإدهاش اعتمادًا على الألفاظ والكلمات، ويُستخدم علم البيان والبلاغة والمعانيّ القوية لذلك بصفة أساسيّة، كما يُشار إليها بكونها إحدى الفنون الأدبيّة النثريّة الشفهيّة، والتي يُقام بها استهدافًا لإقناع الناس بصحة أو خطأ معتقد ما ووعظهم فيما يصح وما لا يصح فعله، فتأتي الخطَابة لاستمالة الناس نحو أو ضد شأن معيّن، وتكون شفهيةً فقط، فإن جاءت مكتوبة أو مدونةً فإنها تُسمى نثرًا أو شعرًا، فللخطَابة لابد من وجود خطيب يتحدث جهرًا وأناس يستمعون إليه.
نشأة الخطابة في العصر الجاهليّ
جاء ظهور الخطَابة في العصر الجاهليّ نظرًا لأحوال معيشة العرب في هذه الفترة الزمنيّة، حيثُ جاءت موضوعاتها مستمدة من ظروف حياتهم ومشكلاتهم اليوميّة، فجاءت متنوعة ما بين خطب الزواج، والرثاء، والوصايا، والحث على الحروب وما إلى ذلك، فقد كانت الخطَابة في هذه الوقت فن ولغة أدبية قائمة بذاتها.
خصائص الخطابة في العصر الجاهلي
جاءت الخطَابة في العصر الجاهليّ معتمدةً على عدد كبير من الخصائص المميزة، فكانت فنًا أدبيًا لا يزال موجودًا حتى اليوم، ومن أبرز خصائصها ما يلي:
خصائص الألفاظ
جاءت جميع الألفاظ قويّة جزيلة، وقد تصب في بعض الأوقات إلى الصعوبة، فقد كانت ألفاظهم مُستمدة من البيئة الصحراوية العصيبة التي كانوا يعيشونها آنذاك.
استخدمت كافة الألفاظ بذات دلالاتها الواضحة، ولا يتعدى اللفظ المعنيّ إلى دلالة أخرى غير واضحة.
كانت الألفاظ ممتلئة بالعديد من الكلمات الحوشيّة غير المُستصاغة.
خصائص المعاني
انفردت معانيّ الخطَابة آنذاك بكونها تلقائية فطرية يسيرة، فجاءت تنبع من الموقف التي صيغَت من أجله، فلا يُفكر الخطيب في المعنى أو يُحلله قبل قوله أو عرضه، بل يعرضه كما جاء في ذهنه دون تغيير، وربما كان اندثار العلم في هذا الوقت هو سبب كوَن الخطابة بعيدة عن التحليل والتفسير.
جاءت المعانيّ متماسكة قويّة، متعددة الأجزاء، فليس شرطًا أن ترتبط أو تدل كل فكرة منها على الأخرى.
كانت التجربة الإنسانيّة هي المصدر الرئيسي الذي يُستمد منه قواعد ومعلومات الخطيب بشأن الحياة، ولم يكن الأمر معتمدًا على العلم أو التفكير أو التعمق في الفهم والتفسيّر.
خصائص الأساليب
اتسمت الخُطب في العصر الجاهليّ بالقِصر وعدم السرد.
افتقرت غالبية الخُطب في هذا الوقت إلى وجود المقدمة والخاتمة، فقد كانت خُطبهم مُرتجلة تعتمد على التلقائية وتفتقر إلى الترتيب والتنسيق.
خَلت الخُطب من التكلف أو التصنع، فقد كانت أساليبهم الكلاميّة خالية من التلوين البديعي أو الصور الجمالية.
أسباب ظهور وانتشار الخطابة في العصر الجاهليّ
هناك العديد من الأسباب المُنتشرة في العصر الجاهليّ والتي جعلت منه موضعًا لظهور وانتشار الخطابة بقدر كبير، ومن بينها الآتي:
القدرة البيانية
فقد امتلك الناس في العصر الجاهليّ قدرة بيانيّة ولغوية كبيرة، جعلت منهم أسيادًا في القول والحديث، بالإضافة إلى نشأتهم الفطريّة على حُسن القول والأدب والبيَان.
انتشار المجالس الفنية
انتشرت في هذه الفترة المجالس الفنيّة، حيثُ كانت تُقام في ساحات الأمراء والأسواق والخيام، وكانت إقامتها بهدف إظهار القدرة اللغويّة والفصاحة البيانيّة بين القبائل آنذاك.
كثرة الحروب والنزاعات بين القبائل الجاهليّة
حال قيام حرب بين قبيلتيّن فكان لابد من قيام دعوة وتنظيم وتشجيع أفراد القبيلة للمشاركة فيها، فظهر فن الخطابة الحربيّة.
حرية الرأي والتعبير
كان الجاهليّون أحرارًا في القول والفعل، لا يُقيدهم أي قيّد أيًا كان، لذا تمتعوا بالحريّة وتنعموا بالراحة، فجاءت خطاباتهم متنوعة الأسباب والأقوال دون قيّد.
أنواع الخطب في العصر الجاهلي
جاءت الخطابة في العصر الجاهليّ متناولةً العديد من الأغراض المتنوعة، وقامت وفقًا للموقف المُقامة به، ومن بين أبرز أنواعها ما يلي:
خطب الوفود.
خُطب النصح.
خُطب الزواج.
خُطب إثارة الحميّة وإثارة الحماسة في النفوس وتثبيت القلوب.
خُطب الوصايا.
خُطب العزاء ورِثاء الموتى.
خُطب المفاخرة والمُنافرة.
نماذج من الخُطب في العصر الجاهليّ
من نماذج الخُطب في العصر الجاهليّ ما يلي:
خُطبة أبي طالب في زواج النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
“الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا، وبيتًا محجوجًا، وجعلنا الحكام على الناس، وإن محمدًا بن عبد الله ابن أخي لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به بركة وفضلًا وعدلًا ومجدًا ونبلًا، وإن كان في المال مقلًّا فإنّ المال عاريةٌ مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصّداق فعليَّ”.